إذا كانت الحرب هي السياسة، لكن بوسائل أخرى، كما قال المفكّر البروسيّ كارل فون كلوزفيتز. فإن الاغتيال السياسيّ، كما العسكري، هو لخدمة الأهداف السياسيّة.

اغتيل الفرعون أخناتون من قبل الكهنة فقط لأنه أراد تغيير الآلهة التي كانت سائدة آنذاك، وهو أمر يضرب سلطتهم.

اغتيل الإمبراطور يوليوس قيصر عام 44 ق.م بمؤامرة من قبل مجلس الشيوخ، وللهرب من تسلّطه.

يكتب المفكّر اللبناني الشهير نسيم طالب في كتابه «Antifragile»، الذي يتناول كيفيّة العمل لرفع مستوى المناعة لدى الإنسان والمجتمعات في كلّ الأبعاد، وكيف يمكن التعامل مع المجهول واللامتوقّع: «كانت جوليا أغريبينا تعرف ابنها الإمبراطور جيداً. وكانت تعرف أنه سيُسمّم لها في يوم من الأيام. لذلك بدأت بتناول جرعات صغيرة من السم على دفعات، والهدف هو اكتساب المناعة. ولسخرية القدر، قُتلت أغريبينا بالسيف. ولمن لم يمت بالسُمّ مات بالسيف. والدرس من هذه الحادثة أنه لا يمكن للإنسان أن يكّون مناعة ضد كل شيء وفي كل الأوقات.

اغتالت الولايات المتحدة الأميركيّة المارشال الياباني ياماموتو إيزوروكو عام 1943 عبر إسقاط طائرته فوق المحيط الهادي. فهو المُتهم بالتخطيط للهجوم على بيرل هاربور. وهو المفكر العسكري البحريّ، الذي أبدع في استعمال حاملات الطائرات لمهمّات بعيدة جغرافيّاً، حيث لا تتوفّر قواعد جويّة. فهل انتهت الحرب بعد الاغتيال؟ كلا بالطبع، لم تستسلم اليابان إلا بعد استعمال السلاح النووي على مدنها.

تهدف الاغتيالات إلى الإطاحة بنظام قائم. والهدف هو خلق الفوضى بهدف إحلال نظام آخر. وقد يكون سبب الاغتيال لشخصيّة معيّنة هو في الأدوار التي تلعبها هذه الشخصيّة. أو الأدوار التي من الممكن أن تلعبها في المستقبل، والتي من الممكن أن تؤثّر على استراتيجيّة المُستهدِف. يؤثّر اغتيال هذه الشخصيات أكثر ما يُؤثّر في الدول، حيث عبادة الشخص مُهيمنة. فبمُجرّد إزاحته، تدبّ الفوضى ليتمّ التغيير. في المقابل، اغتيل جون كيندي في أميركا، لكن أميركا انتخبت رئيساً بديلاً له، واستكملت الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتيّ لتنتصر في عام 1991.

اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري بسبب أدوار كان من الممكن أن يلعبها في المستقبل. والتي كان من الممكن أن تؤثّر سلباً على ديناميكيّة بعض الأطراف من ضمن ديناميكيّة الصراع الجيوسياسيّ الإقليميّ.

الاغتيالات اليوم

في الصراع الدائر اليوم بين إسرائيل من جهّة، وما يُسمّى وحدة الساحات من جهّة أخرى، لا يمكن الفصل بين الاغتيال السياسيّ والاغتيال العسكريّ، فالبُعدان متماهيان مع بعضهما البعض، خصوصاً في ظلّ هيمنة اللاعب من خارج إطار الدولة على بعض الدول. تستهدف إسرائيل قيادات «حزب الله» العسكريّة، كما قيادات «حماس»، والهدف دائماً هو ضرب مراكز ثقل المنظومة العسكريّة إن كانت العملانيّة أو التكتيكيّة وحتى الاستراتيجية. والهدف دائماً هو محاولة إفشال المنظومة العسكريّة ومنعها من العمل كما خُطّط لها، من قيادة وسيطرة، إلى الاستعلام، إلى اللوجستيّة، إلى الإنتاج العسكريّ وغيرها من الأمور. يُطلق على هذه الاستراتيجيّة اسم «Systemic Operational Design». بكلام آخر، تقارب إسرائيل المنظومة العدوّة على أنها نظام مؤلّف من عدة مستويات، مُعدّة لتعمل مع بعضها البعض بشكل متناسق. تهاجم إسرائيل هذا النظام من عدةّ أبعاد، وفي الوقت نفسه وبكافة الوسائل المتوفّرة لديها، تركّز إسرائيل على مراكز ثقل هذا النظام، لجعله غير قادر على القتال كنظام معيّن. من هنا استهداف قيادات «حزب الله» و«حماس» العسكريّة، حتى الوصول إلى اغتيال قمّة الهرم لدى «حماس».

نظريات اغتيال إسماعيل هنّية

عقب اغتيال هنية مباشرةً أُذيع في طهران أن الاستهداف كان بواسطة صاروخ من خارج إيران. وهو السيناريو الأقلّ إحراجاً للمسؤولين الأمنيّين، لكنه الأكثر تعقيداً.

بعد يوم على حادثة الاغتيال، نشرت صحيفة «النيويورك تايمز» مقالاً تشرح فيه عملية الاغتيال، على أنها حصلت بعد تهريب عبوة قبل شهرين من الحادثة لتُزرع في غرفة هنيّة الموجودة ضمن مُجمّع تحت سيطرة وإدارة الحرس الثوريّ، ولتُفجّر بعدها عن بُعد. استكملت صحيفة «التلغراف» البريطانية سيناريو «التايمز» لتقول إن هناك عملاء جّندوا للعمليّة. يُعدُّ هذا السيناريو الأكثر إحراجاً للأمن القوميّ الإيرانيّ.

أما السيناريو الثالث، فهو السيناريو الرسميّ للحرس الثوري، الذي يقول: أتى الاستهداف بواسطة صاروخ ذكيّ موجّه من الداخل الإيراني. زنة الرأس الحربي 7.5 كلم من المتفجّرات. والمسؤول عن الحادثة هي إسرائيل، وسوف يتم الردّ عليها. يُعدُّ هذا السيناريو الأقلّ ضرراً وإحراجاً للأمن الإيراني، وهو الأكثر قبولاً فيما خصّ منطق التنفيذ.

بعض التوضيحات والملحوظات:

  • بغياب التحقيق الجنائي الميداني والمباشر، لا يمكن معرفة ما إذا كان الانفجار كان قد حصل من داخل الغرفة أو عبر صاروخ من الخارج.
  • مع التحقيق الجنائي الميدانيّ يمكن معرفة مكان الانفجار، نوع الشظايا، كما يمكن تحليل غبار المتفجّرات المتبقّية لمعرفة نوعها وحتى مصدرها.
  • لا تُظهر الصورة الجويّة التي نُشرت عن المبنى الذي حصل فيه الانفجار أيّ معلومة جنائيّة مهمّة. كما لا يمكن رصد ورؤية مكان وزاوية اصطدام الصاروخ بجدار الغرفة، هذا إذا كان التفجير قد حصل من الخارج. والعكس قد يعني أن الانفجار قد حصل من الداخل، لتختلف صورة جدران الغرفة التي وقع فيها الاغتيال.
  • عادة في الاغتيالات المهمّة، يُعتمد مبدأ الغموض. ولتأمين الغموض، يعمد الفاعل إلى عدم ترك أيّ أثر جنائيّ يدل على الجهّة الفاعلة. كذلك الأمر، في هكذا عمليات معقّدة وخطيرة، يعمد المُخطّط إلى ابتكار وسيلة وطريقة التنفيذ. فعلى سبيل المثال وعند اغتيال أب المشروع النووي الإيرانيّ محسن فخري زاده، ابتكرت إسرائيل آلية دون سائق، مُركّب عليها رشاش «ماغ» البلجيكي من عيار 7.62 ملم. استعمل الذكاء الاصطناعي في عملية الاغتيال عن بُعد. وبعد التنفيذ، فُجرّت الآلية ككلّ.

Share this content:

من eshrag

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *