لأول مرة منذ شهرين يلاحظ المراقب أن هناك متغيراً في الخطاب السياسي العراقي حيال كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية، ومع أن كلاً من طهران وواشنطن درجتا منذ سنوات على جعل العراق ساحة لتصفية حساباتهما، لكن المنظور العراقي، سواء للموازنة في العلاقة بين الطرفين أو طريقة تعاطيه مع استقلالية قراره السياسي، كان يختلف مع تغير الحكومات التي توالت بعد عام 2003.
ومع أن الإطار العام لتلك العلاقة الملتبسة بين الدولتين تبدو واحدة على الأقل من وجهة نظر وزارة الخارجية العراقية، التي حاول وزيراها الكرديان، السابق هوشيار زيباري، والحالي فؤاد حسين، إظهار موقف متوازن رغم الانقسام الداخلي.
مواقف القوى والكتل والأحزاب والمكونات وتالياً الفصائل المسلحة التي توصف في الغالب بالموالاة لإيران، تختلف مداً وجزراً لجهة طبيعة العلاقة مع كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية، وتمتد في غالب الأحيان نحو المحيط العربي الخليجي أولاً وباقي الدول العربية القريبة نسبياً من العراق مثل سوريا والأردن ومصر.
ولعل المتغير الأهم حيال تلك العلاقة حصل أثناء تولي رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء للفترة من عام 2020 إلى 2022، التي بقدر ما بدت منفتحة خارجياً حتى مع إيران، التي قبلت قيام بغداد بنقل رسائل بينها وبين واشنطن، لكنها لم تكن كذلك من وجهة نظر أبرز كتلة سياسية في البلاد (قوى الإطار التنسيقي الشيعي) التي ناصبت الكاظمي العداء المكشوف حتى انتخابات 2021.
بعد تلك الانتخابات لم يتمكن تحالف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الثلاثي من تشكيل حكومة أغلبية كان من المرجح بقاء الكاظمي رئيساً للحكومة فيها، فقد تمكنت قوى الإطار من تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني بأغلبية مريحة.
بعد مجيء السوداني تغير الخطاب السياسي العراقي نسبياً حيال إيران وأميركا مع بقاء وزير الخارجية نفسه فؤاد حسين، بينما تم استبدال كل الوزراء والمجيء بطاقم حكومي جديد.
دبلوماسية السوداني «المنتجة»
عندما تسلم رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني السلطة في العراق بوصفه رئيساً لمجلس الوزراء خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2022، حاول نحت مصطلح «الدبلوماسية المنتجة» في سياق علاقات العراق مع محيطه الخارجي الإقليمي والدولي.
ومع أن مقاربة السوداني في سياق ما يعنيه بهذا المصطلح تذهب نحو تفعيل البعد الاقتصادي والتنموي والاستثماري بينه وبين دول العالم؛ فإن العلاقة بين كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية لم تكن خلال العقدين الماضيين مبنية على هذا الاعتبار.
على مدى السنوات الماضية، كانت السياسة الخارجية للبلاد رهينة مواقف القوى والأحزاب والكتل، الأمر الذي جعل العراق يتراجع على صعيدي التنمية والاقتصاد، لأنه لم يتمكن من الانتقال من الاقتصاد الريعي وحيد الجانب إلى اقتصاد السوق.
العلاقة الريعية، بقدر ما أدت إلى انتعاش علاقة العراق مع إيران لكن لصالح هذا الأخير على مستوى التبادل التجاري، فإنها لم تكن كذلك مع الولايات المتحدة الأميركية، التي كلما سعت إلى إدخال شركاتها تواجه بمواقف سياسية داخلية تمنعها من الاستمرار في أعمالها داخل العراق.
في مقابل ذلك، وكلما حاول العراق الانفتاح على الشركات الأخرى العالمية الفرنسية أو الألمانية يواجه بقدرة مافيات الفساد التي تتحكم بمستويات مختلفة بالقرار السياسي لكي يبقى العراق سوقاً لتصريف البضائع الرديئة من دول الجوار، لا سيما إيران وتركيا.
السوداني حاول أن يغير من نمط هذه العلاقة عبر تفعيل مستويات أخرى للتعامل مع شركات عالمية لدخول ميادين الطاقة (النفط والغاز) أو باقي المجالات والميادين.
الملعب المفضل
بقي تعامل العراق مع هاتين القوتين قائماً على متوالية تقوم على قاعدة اللعب على مفارقة العداوة المستحيلة بالنسبة لكليهما وبين الصداقة الممكنة لكن من منظور ما هو سيادي للعراق.
كل من إيران والولايات المتحدة خرقتا ما حاول السوداني التأسيس عليه منذ تسلمه مسؤوليته حتى حرب غزة، حيث اختارت كلتا العاصمتين (طهران وواشنطن) ملعبهما المفضل لتصفية حساباتهما عليه.
العراق ومن منظور السوداني، خلال لقائه اليوم الثلاثاء وزير الدفاع التركي، قال إن «أمن العراق وتركيا مترابط، كما هو الحال مع أمن دول الجوار».
وشدد على «التزام العراق بالمبادئ الدستورية التي تؤكد منع استخدام الأراضي العراقية للاعتداء على دول الجوار، وتم اتخاذ إجراءات عديدة في هذا الصدد، لا سيما عند الشريط الحدودي بين العراق وتركيا، مؤكداً في الوقت نفسه رفض العراق المساس بسيادته وأي إجراءات لتصفية الحسابات على أرضه».
وخلال لقائه الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي أكبر أحمديان، أكد السوداني «رفض العراق أي أعمال أحادية الجانب تقوم بها أي دولة، بما يتنافى والمبادئ الدولية القائمة على الاحترام المتبادل للسيادة»، مشدداً على أن «الحكومة العراقية أثبتت حرصها على مبدأ حسن الجوار، وإقامة أفضل العلاقات مع دول المنطقة ودول العالم، لكنّها بالوقت ذاته لا تجامل على حساب سيادة العراق وأمنه».
الخطاب الرسمي العراقي بدأ يتصاعد حيال رفض هذه الممارسات، وهو ما يعني بدء مساعيه لترسيخ سيادته برغم الصعوبات التي تقف أمام مثل هذه المحاولات، بسبب قوة نفوذ إيران داخل العراق وضعف نفوذ العراق داخل المؤسسات الأميركية.
وفي سياق مساعي العراق لأن يكون دولة طبيعية، تأتي رؤية مستشار العلاقات الخارجية في مجلس الوزراء العراقي فرهاد علاء الدين، في مقاله المنشور بجريدة «الشرق الأوسط» أمس الاثنين، بعنوان «العراق لا يمكن أن يكون تابعاً ولا ساحة صراع». يقول علاء الدين في هذا الصدد إن «الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني وضعت على عاتقها مسؤولية إعادة بناء الدولة وفق برنامج طموح، إلا أنَّها وجدت نفسها في ساحة صراع إقليمي ودولي من دون اكتراث الجهات المتصارعة لمصلحة العراق وصب اهتماماتها بالمصالح الذاتية، دون مراعاة التحديات التي تواجهها الدولة العراقية».
ويضيف علاء الدين أنَّ «الحكومة عازمة على تحقيق أهدافها، ولا يمكن عمل ذلك إذا بقي العراق ساحة للصراعات وسط وضع أمني وعسكري قلق ومتوتر ينذر بحرب أكبر وأوسع مما نشهده حالياً».
Share this content: