القصف بالدبابات من بعيد في غرب غزة، الذي أصاب مجموعة كبيرة من المدنيين الأبرياء وهم ينتظرون تلقي حفنة صغيرة من المساعدات لسد الرمق، وحصد منهم 104 قتلى ونحو 800 جريح، يثير السؤال عن أهدافه. ولأن الضمير الإنساني يهتز وينتفض، يستصعب استيعاب مثل هذا القصف، فيطرح تساؤلات جمة: هل هو قصف متعمد أم عشوائي؟ وهل هي سياسة حكومية أم مجرد انفلات لضابط مهووس؟ وهل هي عملية انتقامية أم عملية محسوبة ذات أهداف سياسية وعسكرية؟

هل يعقل أن إسرائيل، التي تدير معركة على الوعي الإنساني طوال عشرات السنوات ضد الوحش النازي وجرائمه ضد اليهود وغيرهم إبان الحرب العالمية الثانية، يمكن أن تدير حرب دمار كهذه طوال خمسة شهور وتحصد هذا العدد من المدنيين، 30 ألف إنسان، بينهم 12500 طفل و8 آلاف امرأة؟ هل هي عملية تكتيكية استهدفت منها إسرائيل دفع حركة «حماس» إلى تفجير المفاوضات حول صفقة الهدنة المرتقبة، لكي تستمر الحرب وبذلك يضمن بنيامين نتنياهو استمراره في الحكم؟

كلها أسئلة صعبة لكنها واجبة. فالقادة العسكريون في إسرائيل، وليس نتنياهو وحده، يديرون حرباً على غزة وأهلها تخالف أي منطق إنساني وتنطوي على خروق مرعبة حتى للقوانين الحربية. وسيكون عليهم إعطاء الجواب عليها. هم يدعون أن هذه حرب دفاعية بسبب «الفظائع الوحشية التي نفذتها حماس خلال هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي». وكانت هناك فظائع فعلاً، لكن الرد الإسرائيلي الانتقامي لم يكن متناسباً ولم يكن طبيعياً، كما أنه لم يكن ضد «حماس» بل ضد المواطنين الفلسطينيين الأبرياء. ورغم مضي نحو خمسة شهور، والانتقادات الواسعة في العالم، ما زالت إسرائيل تنفذ عمليات تبدو وحشية أكثر من سابقاتها.

جنديان إسرائيليان يقفان على دبابة بالقرب من الحدود مع غزة بجنوب إسرائيل (أ.ب)

الأخطاء الإنسانية

ولنبدأ بالحديث عن الأخطاء الإنسانية. بالطبع، ليس مستبعداً أن يكون القصف المباشر للمدنيين ناجما عن خطأ غير مقصود. فالجيش الإسرائيلي مثل أي جيش يرتكب أخطاء، وليس فقط ضد الفلسطينيين. اليوم، نشر تقرير يفيد بأن دبابات إسرائيلية أطلقت النار عن طريق الخطأ داخل الأراضي الإسرائيلية خمس مرات على الأقل قرب حدود غزة والحدود اللبنانية منذ بداية الحرب.

وقالت صحيفة «هآرتس» إنه، وفقاً لمعلومات حصلت عليها لا تريد أن تكشف مصدرها، إن هذا القصف تسبب في مناسبتين على الأقل، بإلحاق أضرار بالمباني، وفي إحداهما أطلقت دبابة قذيفتين على كيبوتس (مستوطنة) هانيتا، على الحدود اللبنانية. ونتيجة لذلك أقيل قائد الفصيل من منصبه، علما بأنه ضابط برتبة ملازم أول، كان أيضاً قائد الدبابة. هذا عدا عن حوادث تم خلالها قتل جنود ومواطنين إسرائيليين بنيران صديقة.

لكن عندما يحصل خطأ يفترض أن هناك اعترافا ومحاسبة واعتذارا. وهذا لا نراه في الحادثة الأخيرة في غرب غزة. بل يتضح أن هذا المكان بالذات، تم قصفه مرتين في الماضي وبنفس الطريقة وأدى إلى مقتل مدنيين أبرياء، ولم تعتذر إسرائيل. وكما هو معروف، فإن قصف الدبابات لا يكون دقيقا مثل الطائرة. وكل قصف دبابة من بعيد يكون محفوفا بالمخاطر. والفلسطينيون يتحدثون عن مجازر يومية ترتكب في غزة خلال الحرب، وهم يعتبرون أن كل عملية يتم فيها قتل أكثر من 5 أشخاص في تجمع واحد هي مجزرة. ولهذا، فإن إحصاءاتهم تتحدث عن عدد القتلى وعدد الجرحى وعدد المجازر.

555417 وزير الخارجية النمساوي يحذّر «حزب الله» من «اللعب بالنار»
فلسطيني فوق أنقاض منزله المدمر في شرق مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة (إ.ب.أ)

ما هو الهدف؟

لذلك، فإن الاحتمال أن يكون هذا القصف غرب غزة مجرد خطأ غير مؤكد. إذن، ما هو الهدف؟ أولا، هناك احتمال كبير أن يكون هذا القصف تعبيراً عن إفلاس في الأهداف العسكرية. لقد تحدثت إسرائيل في بداية الحرب عن إعداد بنك أهداف عسكرية يتضمن عشرات ألوف المواقع. ومن يتابع الغارات الجوية والبرية والبحرية، يجد أن من الأهداف العسكرية كانت مدارس ومستشفيات ومباني في الجامعات وثلاث كنائس وعشرات الجوامع ونوادي وغيرها.

وثانيا، منذ بداية الحرب والقادة الإسرائيليون يتحدثون عن هدف يسمونه «تغيير الوعي الفلسطيني»، ويقصدون أن يحفروا في الذاكرة أن المساس بإسرائيل له ثمن باهظ، قد يكون خسارة الأرض وقد يكون الاستيطان اليهودي في الأرض وقد يكون القتل الجماعي وقد يكون نكبة جديدة، وفي كل الأحوال النتيجة هي أرض محروقة.

وهم يريدون إيصال الجمهور الفلسطيني إلى وضع يتهم فيه «حماس» بالمسؤولية عن هذه النكبة، مثلما اتهم الفلسطينيون قادتهم بالمسؤولية عن النكبة الأولى. واليوم حاولت تعزيز هذه القناعة من خلال النشر عن رسالة يدعون أن يحيى السنوار، قائد «حماس» في قطاع غزة، الذي يعتبرونه في إسرائيل المسؤول الأول عن هجوم 7 أكتوبر، أرسلها إلى قادة «حماس» في الخارج، يطمئنهم فيها بأن المقاومة بخير وطلب منهم ألا يتأثروا من قتل إسرائيل لكثير من المدنيين الفلسطينيين، لأن الأمر يضر إسرائيل ويقود إلى الضغوط عليها.

555413 وزير الخارجية النمساوي يحذّر «حزب الله» من «اللعب بالنار»
فلسطينية تسير مع طفليها بين أنقاض مبنى سكني مدمر في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة (إ.ب.أ)

السنوار يطمئن

فكما جاء في تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، ووقعه مراسلوها في المنطقة ماركوس ووكر وعنات بيلد وسمر سعيد، فإن «مسؤولين كبارا في قيادة «حماس» أعربوا عن قلقهم من نجاحات الجيش الإسرائيلي في القتال وتآكل الذراع العسكرية للمنظمة، وذلك خلال اجتماع مطلع الشهر الحالي في قطر». لكن السنوار قال مطمئنا على لسان أحد مبعوثيه «إن الإسرائيليين موجودون حيث نريد لهم بالضبط أن يكونوا. ومقاتلو القسام جاهزون لمواجهة الجيش الإسرائيلي في رفح. والخسائر المدنية في جنوب غزة ستؤدي إلى ضغط دولي على إسرائيل».

وادعت الصحيفة أن «هدف السنوار هو خروج حماس من تحت أنقاض غزة بعد الحرب، وإعلان انتصار تاريخي على إسرائيل، والاستيلاء على القيادة الفلسطينية».

ففي إسرائيل، ثمة من يفكر في خوض هذه المنافسة حتى النهاية ولسان حاله يقول: «هكذا يريد السنوار. حسنا. تعالوا نعطيه. خذ أكبر عدد من القتلى ونحن نتحمل الضغوط الدولية». وهؤلاء لا يكترثون لشيء في العالم سوى الموقف الأميركي. فإذا لم تطلب واشنطن وقف النار بشكل صارم، لا يرضخون.

والاستمرار في الحرب يشجع العديد من القوى في إسرائيل على مزيد من القتل ومزيد من تحدي المجتمع الدولي وحتى مزيد من التطاول على الإدارة الأميركية. وليس فقط إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بل حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يجاهر بالخلافات مع الرئيس الأميركي جو بايدن ويقول إن «80 في المائة من الشعب الأميركي معنا».

555434 وزير الخارجية النمساوي يحذّر «حزب الله» من «اللعب بالنار»
مقاتلان من «كتائب القسام» برفقة أسيرين خلال عملية تبادل الأسرى بين «حماس» وإسرائيل في نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

أدوات التفاوض

وثالثا، الكثير، وربما الغالبية الساحقة من العمليات الحربية الإسرائيلية، خصوصا في الشهور الأربعة الأخيرة، جاءت لتكون أداة أخرى من أدوات التفاوض على صفقة تبادل. تشدد الضربات العسكرية لتضغط الطرف الآخر في المفاوضات. وكلما تقدمت المفاوضات أكثر واقتربت من نهايتها، تمارس ضغطا أشد لتبتز تنازلات أخرى. في كثير من الحالات كاد مثل هذا الضغط ينسف المفاوضات، لكنه مغامرة محسوبة.

ورابعا، عندما يتحارب الصقور السياسيون، ينفذون عملية تشابك بين العمليات الحربية والمفاوضات. ويصرون على جعل آخر العمليات الحربية كاسحة بشكل خاص. وقد حصل الأمر عدة مرات في جولات التفاوض السابقة بين إسرائيل وحماس. فبقدر ما يبدو الأمر فظيعا، فإنه الواقع. ولذلك، لن يكون مستبعدا أن تنهي «حماس« الحرب بقصف صاروخي على تل أبيب قبل دقائق من موعد وقف إطلاق النار، وليس مستبعدا أن تنفذ إسرائيل عملية شرسة بشكل خاص قبل أيام من موعد وقف النار.

Share this content:

من eshrag

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *