يقف أكرم العقاد (34 عاماً) في طابور طويل لنازحين من مختلف الأعمار قدموا من مناطق وأحياء قريبة وبعيدة بمنطقة المواصي غرب خان يونس لتعبئة الغالونات التي جلبوها معهم بمياه الشرب؛ أملاً في توفير مياه صالحة للاستخدام الآدمي، بعدما عجزوا خلال أيام سابقة عن الحصول عليها. وعلى الرغم من توفّر بعض الآبار على مقربة منهم، فإن مياهها غير صحيّة ولا تخضع لعمليات تنقية.

ووفق تقرير أعدته «وكالة أنباء العالم العربي»، المكان الجديد الذي تعرّف عليه أكرم يُقدّم صاحبه المياه بعد إدخالها إلى منظومة تحلية خاصة تجعلها أكثر نقاءً وعذوبة ويمكن استخدامها للشرب والطهي بقدر أقل من الضرر مقارنة مع الآبار السابقة التي تسببت في مرض معظم النازحين معه نتيجة شرب المياه الملوثة.

يضطر الشاب إلى قطع مسافة تصل إلى كيلومترين ذهاباً وإياباً أكثر من مرة يومياً، ليعبئ غالونين من مياه الشرب لعائلته وعائلات أشقائه الخمسة الذين نزحوا إلى منطقة المواصي. لكن المشقّة التي يتكبّدها خلال رحلة تعبئة المياه الممتدة لساعات، سواء في قطع مسافة طويلة أو الوقوف في طابور، أقل بكثير من آلام الأمراض التي تصيب العائلة من المياه الملوثة.

ولأن العائلة تضم 82 فرداً من مختلف الأعمار، فالحاجة ماسة إلى الذهاب مرتين على الأقل لتعبئة المياه، خصوصاً وأن المتبرع بتقديم مياه الشرب للنازحين لا يسمح بتعبئة أكثر من غالونين سعة 20 لتراً في كل مرة لكل عائلة.

يبيّن أكرم أنه وجد ضالته على مسافة بعيدة من مكان نزوحه بعد مشقة استمرت أياماً وهو يبحث عن مصدر آمن للمياه حتى وجدها في منطقة شمال المواصي، لافتاً إلى أنه يلجأ أيضا إلى تعبئة مياه لتنظيف بعض الملابس والأواني المنزلية من بئر قريبة لا تصلح مياهها للشرب أو الطهي.

وتكتظ طوابير الحصول على مياه الشرب طوال النهار، خصوصاً وأن المصادر التي توفر المياه الصحية محدودة قياساً بالأعداد الكبيرة للنازحين الذين يتوزعون في مواصي محافظتي خان يونس ورفح والمناطق القريبة منهما، كما يتركز جزء منهم في أحياء متعددة من رفح، علماً بأن سكان قطاع غزة عموماً كانوا يعتمدون نقل المياه الصالحة للشرب إلى منازلهم من خلال شركات ومحطات تحلية تجارية في أوقات ما قبل الحرب.

تكتظ الطوابير للحصول على مياه الشرب طوال النهار (وكالة أنباء العالم العربي)

يؤكد الرجل أن الحصول على المياه الصالحة للشرب في مناطق النزوح معركة تخوضها العائلات بشكل يومي وتحتاج إلى ساعات عدة؛ نظراً لمحدودية المياه وبعدها المكاني في أحيان كثيرة؛ ما يعني مشقة أخرى تضاف إلى عذاب النزوح الذي لا ينتهي.

لكنه رأى أنه على الرغم من هذه المشقة، ليس من المضمون توفير هذه المياه أو مياه الاستخدامات المنزلية بشكل يومي لاعتبارات تتعلق بصعوبة التنقل خلال أيام الشتاء في طرق ترابية تمتزج بها مياه الأمطار فتصبح بِركاً من الأوحال، أو لعدم توفير المياه من قبل أصحابها مرات عدة.

وقال للوكالة: «تجربتنا المريرة مع المياه الملوثة، وما نتج عنها من أمراض لكل الأعمار، تضطرنا إلى لعدم تناول أي مياه في بعض الأوقات، حتى لو عطش أطفالنا؛ لإدراكنا أن النتائج على صحتهم ستكون كارثية».

وأضاف: «لذلك، نرى أن توفير مياه صالحة للشرب أهم شيء في برنامجنا اليومي خلال النزوح، وحتى أهم من الطعام؛ فأحرص أنا على التكفل بتوفير هذه المياه؛ لأتيقن من مصدرها وكيفية معالجتها عبر محطة تحلية مضمونة».

وإذا كان هذا حال عائلة أكرم وعائلات أشقائه، الذين يوزعون المهام اليومية بينهم ويضعون مياه الشرب في صدارتها، فإن أبناء أبو أحمد عمر، الذي تجاوز عمره 73 عاماً، يحرصون أكثر على توفير المياه الصحية؛ نظراً لأن والدهم يعاني الفشل الكلوي ويضطر إلى غسل الكلى بشكل منتظم، فضلاً عن التاريخ المرضي للعائلة مع هذه المرض.

وأوضح ابنه عبد الرازق، أن أي خلل في مصدر المياه يفاقم وضع والده الصحي، مع غياب الرعاية الطبية خلال الحرب؛ الأمر الذي يهدد حياته بخطر داهم قد يُفضي إلى نتائج خطيرة، مبيناً أن المشكلة الأكبر للنازحين هي مياه الشرب بعدما تعرضوا جميعاً لأمراض متعددة نتيجة استخدام مياه غير صحيّة خلال الأسابيع الأولى من النزوح.

يتحدث عبد الرازق عن أن مشقة الحصول على المياه الصحية، ولو قضى نهاره كله بحثاً عنها، أهون بكثير من مشاق البحث عن الأطباء للنجاة من أمراض المياه الملوثة وتوفير العلاجات والأدوية مع صعوبة الوصول إلى المستشفيات وانشغال القطاع الصحي بجرحى الحرب.

وأكد أن العائلات النازحة تفضّل الذهاب والإياب مرات كثيرة لتوفير المياه الصحية ولو بكمية بسيطة على الاضطرار إلى المياه غير الصالحة للاستخدام الآدمي، والتي تجرعوا مرارة شربها خلال فترات سابقة من الإعياء والمشقة.

وبينما يقرّ الرجل بقضاء جل نهاره لتوفير مياه الشرب في التنقل والوقوف بالطوابير مع النازحين، وقبل ذلك شراء غالونات بسعات صغيرة وبأسعار مضاعفة، فإنه يقول: إن الحصول على المياه النظيفة نهاية النهار وشربها يبعث على الارتياح والطمأنينة قليلاً بتقليص الإصابة ببعض الأمراض.

وتبدو حالة عبد الرازق، الذي نزح من وسط خان يونس مع عائلة والديه وأشقائه وأنسبائهم، وتتجاوز أعدادهم 90 فرداً يعيشون في ما يشبه الخيام القريبة من بعضها، أفضل من غيره؛ فهو يستعين بعربة يجرها حمار لأحد أقاربه في رحلة الحصول على المياه.

ويصف عبد الرازق توفير المياه الصحيّة من قِبل بعض المزارعين المقيمين سابقاً في منطقة المواصي بأنها «أفضل ما يُقدّم للنازحين وأكبر إنجاز يمكن تحصيله في أوقات الحرب والنزوح العصيبة».

ومع صعوبة توفير المياه الصحية من بعض موزعيها القلائل؛ لعدم القدرة على الوصول إلى معظم محطات التحلية؛ نظراً لوقوعها في مناطق اجتياح الجيش الإسرائيلي، وأيضاً عدم توفر سولار لتشغيل الشاحنات والاتصالات شبه المقطوعة بشكل دائم، لا يتبقى للنازحين بمناطق المواصي سوى مصادر محدودة للغاية توفرها بعض البلديات أو الأهالي الذي يتبرعون بتشغيل آبارهم ومحطات تحلية لديهم لتزويد الناس بالمياه مجاناً.

أبو فتحي الأغا (48 عاماً) أحد المزارعين الذين يمتلكون منظومة طاقة شمسية يشغل من خلالها بئراً للمياه ومحطة تحلية يمتلكها في المواصي، تمثل حبلا للنجاة لآلاف النازحين الذين يحصلون من خلالها على المياه بصورة يومية منتظمة ومجاناً.

وبيّن أبو فتحي، أنه قبل النزوح كان يشغل محطة تحلية مياه صغيرة لاستخدامات منزله ومنازل بعض عائلات المزارعين القريبين منه وبشكل محدود للغاية؛ لكن مع وصول النازحين وانتشارهم في كل مناطق المواصي، اضطر أبو فتحي إلى توسيع قدرات المحطة وتشغيلها طوال النهار وبشكل يومي لتسد حاجة من يفدون إليه من مناطق عدة.

قال الرجل: إن المحطة، التي توفر 15 ألف لتر من المياه الصحية يوميا، تكفي بالكاد من يصلها للتعبئة طوال ساعات النهار؛ لكن الأزمة تتفاقم في أيام المطر والمنخفضات الجوية وما يصاحبها من غياب الشمس، وبالتالي توقف منظومة الطاقة الشمسية التي توفر الكهرباء عن العمل.

وأشار إلى أنه يضطر لشراء السولار بأضعاف سعره الاعتيادي لتشغيل مولد كهربائي خلال أيام الشتاء لكي يضمن توفير الطاقة لتشغيل البئر ومحطة التحلية ومن ثم توفير مياه الشرب دون انقطاع.

Share this content:

من eshrag

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *